الجمعة، 28 ديسمبر 2018

بين شِقَّيّ الرَّحى -حبة بازلاء-

كان وجهي هو الباب الأول الذي لا يَطرقه أحدهم، هذا التشوه الذي أصاب والدتي فأصابني من بعدها، ولا أعلم لماذا كان الله غاضب مني دون أن أفعل شيء!
أنا لم أكن طفلًا سيئًا لهذه الدرجة، ولم أكن أكثر أخوتي صراخًا. كنت هاديء كما قالت لي جدتي وخالتي عفاف التي أشركتها أمي في تفاصيل حياتنا، وأجبرتنا على اعتبارها خالتي رغم عدم مشاركتهن الدم نفسه، ولا الأم نفسها، ولكن خالتي عفاف طيبة، وكانت تضع في طبقي المزيد من الأرز لأنها تعلم أنني أفضله عن أي شيء، وكانت أمي تنهرني.
-      _  اترك الأرز، وكُل قطعة الفراخ
-      _ لا أحبها
-     _  هي أيضًا لا تحبك، ولكن مُجبرة على المكوث في معدتك
-     _  أمي ..
-      _ لا تمتعض ! كُل.
يخاف الأطفال من اللعب مع طفل بعين واحدة وعين أخرى يُغمضها طيلة الوقت، وكانت أمي تُجلسني بجوارها كي لا أصاب بمزيد من الأذى، وكُنت أبكي لوحدتي، ولا أعلم لما لا تتركني. ستُتعبني الوحدة أكثر.

-    _  أمي ؟
-   _   نعم ؟
-   _   هل يكرهني الله ؟
-     _ الله لا يكرهنا !
-      _ لماذا خلقني بهذا الألم في رأسي وبعين واحدة فقط ؟
-      _ لك عينين وليست عين واحدة وهذا الألم بسبب حبة بازلاء صغيرة في رأسك
-      _ ولماذا لا تُخرجيها ؟
-      _ لا أملك المال الكافي لنذهب للطبيب
-      _ إذن نطهيها ونأكلها !
-      _ ليت الأمر سهلًا !
-      _ أمي ؟
-      _ نعم ؟
-      _ هل أنا طفل جيد ؟
-      _ أنت أفضل طفل في العالم
-      _ أخرجي حبة البازلاء من رأسي إذن !
-      _ حسنًا، سأخرجها..
كانت أمي تجد صعوبة في إخباري بأن حبة البازلاء ورم صغير يكبر مع الوقت، ولابد أن أجلس في المستشفى طويلًا لتتم إزالته، ولكن الطبيب أخبر أمي أن المستوصف التابع لبلدتنا صغير، لابد أن نذهب للعاصمة ويراني طبيب أكبر، ونقود أكثر في فحوصات أكثر، وأمي لا تملك نقود الحافلة التي ستقلنا، ولا تعلم كيف ستترك أخوتي مع خالتي عفاف، وزوجها غاضب أغلب الوقت، ولا يُحب صراخنا، ولعبنا.

كان المكان الآمن الوحيد الذي أشعر فيه بقليل من الراحة هو حضن أمي، تُعانقني ليلًا؛ لأنام، وكانت أحلامي توقظها. أهرول داخل الحلم، ولا أعلم هل هو الحلم أم الواقع، أتحسس وجهي عادة لأعلم وعندما أجدني في الحلم أهرول من جارنا الذي يقذفني بالحجارة، ويُوبخني لأني أجري منه بشكل يراه مُضحك، وأبكي! تمسح أمي عبراتي، وتضمني أكثر فأنام مطمئنًا.
الأطفال شياطين صغيرة خُلقت لمضايقتي وللبصق على وجهي، وأنا لا أرى في البصق عليهم أو معاداتهم قوة، فأنا أحب اللعب معهم، ولا أحب الجلوس وحدي في الغرفة مع أمي حتى يحضر أخوتي للغذاء.

تستمر حبة البازلاء في مضايقتي، وحاولت مرارًا إخراجها، ولكنها ثقيلة وتجلس بعمق داخل رأسي، وأنا لا أملك الإبرة الرفيعة التي تُخرجها، وضربتني أمي كثيرًا عندما حملت السكين الصغير ووقفت أمام المرآة أبحث عن مكان صغير أفتح به باب للحبة الصغيرة.
أمسكتني وكانت تصرخ في، وتلطم خدها، وتسبني، وتسب الأيام، وتبكي، وسمعتها تسأل الله لماذا خصها بكل هذا، كانت تحدثه بشيء من عدم التأدب وكُنت أخافها في هذا الوقت، أخافتني نظراتها لي، تطلب مني الغفران، وغاضبة هي عليّ من أجلي.
بكيت كثيرًا لأني لم أدرك لم تبوخني أمي على محاولتي نزع تلك الحبة الغبية من رأسي؛ فهي باتت تؤلمني للغاية وأحب اللعب مع أطفال الخالة نعيمة والخالة فاطمة.

هرب والدي بعد ولادة أخي الأصغر، ترك أمي وطفلين وفتاة لأنه لا يجد عمل يسد جوع صغاره، ولأنه ظن أنني وجه قبيح للمسيخ الدجال، خاف أن أتحول لنصف إله، وأجعله كافرًا فهرب تاركًا خلفه أسرة كاملة مُستعدة للكفر.

كانت أمي تغسل ملابس الجارات اللاتي يسكنن البيوت المُتسعة في البلدة صباحًا، وتذهب عيادة طبيب القرية المجاورة مساءً، وتساعده في بعض الفحوصات التي يُجريها لسيدات يخجلن من وجودهن مع طبيب بمفرده داخل غرفة الكشف، وكُنت أذهب معها كثيرًا للعيادة وأرى المرضى، وكبار السن يتعكزون على أحد أطفالهم، وينظرون لي نظرة سريعة، ثم يجلس أحدهم ويسترق الآخر نظرة أخرى، ليتأكد أنني لست مريض، ويخجل من نظرته فيكف عن النظر.

أخجل من دمع أمي حين تنظر لي وتتحدث مع الله بهمهمات تخترقني، وأخجل حين يُنكر أخي أنني أشبهه ! رغم أننا نشبه بعض كثيرًا ولكنه لا يُحب أن يُخبره أحدهم بذلك.

جاءتنا جدتي ذات يوم، وأخبرت أمي أن أبي توفى، وأعطتها بطاقته، وأوراق كان يحملها في جيب قميصه عندما صدمته سيارة، ولم يجدوا معه أي نقود، لم تظهر على أمي أي علامات حزن أو فرح، ودعت جدتي وتركت بطاقته على المنضدة وذهبت للنوم، ذهبت إليها وعانقتها ونمت بجوارها، ولم تستيقظ أمي صباحًا مثل العادة، تركت جسدها المسجى البارد وذهبت لخالتي عفاف أخبرها أن أمي مريضة، بعد حضور الخالة حضرت كثيرات غيرها، وتحولت بيتنا لسيرك ضخم مليء بالصراخ والعناق لأخي والتربيت على كتفي، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي يلمسني فيها أناس بهذا العدد، لا أتذكر هل لمسني أحدهم بعد ذلك اليوم أم لا! ولكني أعلم أن عناق أمي ليلة موتها كان آخر عناق حصلت عليه، وما زالت حبة البازلاء تؤلمني، وصدري يطلب الدفء ولا يجده، فجسد أمي تركوه أسفل الأرض، لأننا لا نملك مقبرة مثل الخالة عائشة، وقتها فقط كنت سأعانق المقبرة، ولكنني اليوم أعانق الأرض كلما افتقدت أمي ورائحتها، ويدها التي تحميني من البصق والسب والحجارة التي تقذفها الحياة في وجهي فتشج رأسي.



الخميس، 20 ديسمبر 2018

مشتاق ولا يُشبعني غير العناق..

مشتاقة فقط للكتابة بشكل مستمر دون إنقطاع ودون أن أشعر بجوعي الشديد وفقري، وتوقف عقلي عن التخيل أو العمل..
وهنا الكتابة فتاة رشيقة ونحن عجوز أرهقه العدو والهرولة خلف سراب، وتغيظه الفتاة وتبتعد كلما رغب فيها
لا أريد أن أكون عجوز، أو أن تنفر الكتابة من أفكاري غير المرتبة.

عودي يا بلية ..
عودي